السبت، 30 نوفمبر 2019

افا يا نبع الحنان..



قُبيل اذان الظهر.. كنت قد أنهيت من قراءة قصة قصيرة قد وصلتني في هاتفي.. 
خُلاصتها ان الطفل المريض حين تأخذه امه إلى طبيبٍ ، فيسأله الطبيب : مما تشكو يا ولدي؟  .. فيأتي الرد بالنظر إلى امه دون أن يُحرك شفتاه ، فتجيب الأم الطبيبَ من ماذا يشكو ابنها..
 يا لها من ام حنون.. انها نبع الحنان حقا ..

انتهى المؤذن من رفع الأذان.. فذهبت إلى أمي لأحتسي معها فنجاناً من قهوة الظهيرة.. وكنت قد عزمت على تطبيق قصة الطفل المريض مع امي..

بعدما انتهيت من أكل تمراتي ال٢١ حبة التي اعتدت على أكلها قبل أن أتلذذ بطعم القهوة المر.. وحين همّت امي ان تسكب لي القهوة، قلت لها لا اريد "انا مريض".. 
فرمقتني بنظرة و قالت : لو مخلص السح كله، بعدين قول مريض .. ثم أضافت :
من متى ابليس يكسر وعيانه.. انت لو فيك خير، اتنهض تصلي الفجر..

فقاطعتها بقولي : ماه، ما هذا موضوعنا.. موضوعنا اني مريض.. الدراسات الحديثة هذه الأيام تقول أن الام قادرة على معرفة مما يشكو ابنها..
فقالت : تتمسخر من امك يا ضعيف الأدب..
فقلت لها نافيا مما تقول : لا يا أمي، ما اتمسخر ، ولكن هذا الذي قرأته عن مواصفات الأم الحنون..

وما كدت انهي جملة "الأم الحنون" الا وتغير لون وجهها، و تقوس حاجبيها.. فأخذت "صينية التمر والفاكهة" معها.. وتمتمت بكلماتٍ لم أفهم منها الا "لو طاعمين ثور، كان ابرك حالنا، ايفيدنا حال العيد"..
وانا انظر إليها بنظرة فيها شيء من الحسرة و قلت لها : افا يا نبع الحنان

الاثنين، 21 أكتوبر 2019

٩٠ ميلا عن نواكشوط..


لم تكن والدتي لتشعر بالسعادة حين ابلغتها أنني  في عيادةٍ لأخذ بعضاً من التطعيمات قبل أن أتجه إلى أقصى دولة في المغرب العربي..

ليست المرة الأولى ولا اظنها ستكون الأخيرة  في مسلسل  قلق امي - رزقني ربي خدمتها  -.. لكنني كنت حينها قد اتخذت قرار السفر و لم افكر بالتراجع ، فلقد كان حلماً يراودني منذ سنوات.. فلن أتراجع الان..



كنت مؤمناً ان الدنيا تمنحنا بعض الفرص ولن تُعيد منحنا اياها  مجددا.. فلن يكون قلق امي حاجزاً في سبيل إتمام هذه الرحلة و خاصة أنني تحايلت على مسؤولي ليوافق على هذه الرحلة.. هكذا كنت اردد في نفسي، حين أنهيت مكالمتي مع أمي..

يا إلاهي.. هـَأنَـذا أمام عقبةٍ جديدة.. رفضت عاملة المطار إتمام عملية تسجيل الدخول، معلله أنني لم احجز موعداً للعودة من رحلتي هذه..

الساعة تقترب من الثانية فجراً ولا اظن أن كائناً عمانياً ليس "في سابع نومٍ الآن" ..
أشارت إليّ موظفة المطار ان بالإمكان عمل حجز وهمي لموعد الرجوع في محاولة منها لمساعدتي ، فقلت لها أنني قادر على تدبر الأمر ولو لحين .. امنحيني بعضاً من الوقت .. فلا يزال أمامنا أكثر من ساعتين ونصف عن الإقلاع..

"عبادي ، صاحي؟".. هكذا صحت بالهاتف حين أجاب على اتصالي صاحبي عبدالله .. وبصوتٍ متقطع وناعسٍ يصعب سماعه، لكأنه فحيح أفعى تحاول الدفاع عن نفسها.. سيلٌ من الشتائم تلقتها اذني  بعدما ازعجته بإتصالي في هذا التوقيت .. لكنني كنت ابتسم ، ف معرفتي به ليست وليدة اليوم .. و أخبرته بمرادي..

ثلث ساعة قد انقضت قبل أن تصلني رسالة نصية بإستقطاع تكاليف تذكرة العودة من حسابي البنكي .. و يتبعها اتصال منه .. وبخبثي الذي يعرفه قلت له "تراك ازعجتنا ف ذا التوقيت" ، فقهقهت بصوت مرتفع ، فقد توقعت مسبقاً ماذا يريد من اتصاله وكيف ستكون ردة فعله بعد هذا السؤال  .. 
لم تخب ظنوني، فلقد سبق صوته الجهوري سيلٍ من السباب، قبل أن يخبرني بأن تأكيد حجز تذكرة العودة قد تم إرساله إلى بريدي الإلكتروني.. شكرت  عبدالله من القلب بعدما انهيت المكالمة  على معروفه الذي لا يُقدر بثمن..



منذ أن تركت سيارتي عند مدخل المطار و إلى أن ركبت سيارة من استقبلني.. انقضت  أكثر من ٢٧ ساعة.. طفت خلالها بين مطاراتِ ثلاث دولٍ عربية و على متن ثلاث طائرات..

انها الثانية والنصف فجراً بالتوقيت المحلي، السادسة والنصف بتوقيت وطني.. السائق يحاول جاهداً ان يتحدث بلغةٍ عربية فأعذره.. من أقصى الشرق العربي  جئت و إلى أدنى الغرب منه  رحلت.. فما كنت متأملاً ان اجد من يتقن العربية في هذا البلد.. ففضلت الاستماع إلى قناة مونت كارلو بالعربية دون أن أكلف عليه بالحديث معي، ومفضلا قراءة معالم نواكشوط في خيالي ..

شارعٌ  يبدو انه حديث الإنشاء - ولا تسألني عزيزي القارئ إذا ما كانت الهمزة تُكتب لوحدها في اخر الكلمة أو فوق الالف - يخرج من مطار نواكشوط كلسانٍ يحاول إلتهام جسدٍ نحيل .. يقسم الشارعُ المدينة إلى نصفين بلا اكتافٍ يفرشها على جانبيه .. مباني ذكرتني بمشهدٍ تم تصويره في مسقط في منتصف أو أواخر السبعينات من القرن الماضي.. لكنني متفائل مع أهالي نواكشوط ان الخير قادم و التعمير اتٍ لا محاله..



انها السابعة صباحاً.. موعد  الذهاب إلى المطار مجدداً.. ف طائرة مروحية ( هليكوبتر) بإنتظاري مع مجموعة من المسافرين.. 
أكثر من ساعة ونحن نحلق بالطائرة   فوق البحر، وعيناي لم تشاهد بعد تلك السفينة المزعومة  الحاملة على سطحها جاهز حفر الابار..



خمسةٌ وسبعون دقيقة، ذهبت من عمري منذ أن صعدت الطائرة  محلقةً فوق البحر وقبل أن تلامس قدماي هذا الصُنع العظيم...

من علم الإنسان كل هذه العلوم .. يالله كم انت عظيم بأن منحت الإنسان عقلا جباراً ليغزوا به بحراً عميقاً باحثاً عن مصدر للطاقة، فوق سفينة تطفو  على  بحرٍ يبعد عمق قاعِه أكثر من ٢٥٠٠ متر!!.. 



تنظر إلى جهة الغرب إلى حيث ما يثير فضولها دائما .. إلى نجمٍ تميّز عن بقية اقرانه من النجوم بإشتداد نوره و كِبرِ حجمه.. مهما حاولت هي أن تبعد بنظرها إلى جهة أخرى، يبقى هذا النجم متلألأً .. 
هكذا قالت لي امي ذات يوم قبل أن اكون في هذا الوجود ومن بعدها ولدت .. تذكرت قولها حين  كنت ابحث عن قبلتي على سطح هذا الجسم العائم .. طفت شرقه وغربه ، ولم احدد قبلتي بعد.. العمر يمضي يا اماه ولم ترسو سفينتي بعد..  
كهذه السفينة انا يا أمي.. حين تستقر في مكانها وكأن اعمدة خرسانية تمسكها من الأسفل حتى لا تتحرك.. لتتم حفرها بنجاح وتمنح خيرها للآخرين.. وبعدها ترحل إلى مكانٍ آخر باحثةً عن كنوزٍ مدفونة  تحت طبقات الماء والأرض .. تدور حول محورٍ ثابت - ولا تسأليني يا اماه كيف تم تثبيته - كثورٍ يدور حول حلقةٍ.. متى ما غيّرت الرياح اتجاهها او حاولت الأمواج تقاذفها، غيرت من إتجاه بوصلتها ..
شعبها في حراكٍ دائما كالدماء تجري في اوردتي و شراييني.. انها قرية صغيرة عائمة وسط المحيط.. حُددت أهدافها وأنا لا أعلم ما اذا كنت قد حددت أهدافي أو  لم احددها بعد يا أمي..

تذكرتك يا اماه وانت تنشدين قصيدة شيخنا السالمي عن تلك الاعجوبة التي حدثتني اياها في صغري ، مطلعها  :
لقد ظهرت أعجوبة في زماننا... بقرية نزوى وهي أم العجائب

تسائلت حينها يا أمي ان لو كان شيخنا السالمي معي، هل كان سيقول :
اصاب العقل حيرةٌ فرماني .. فوق قريةٍ لا تهاب الخلجانِ
سفينة لها من الأدوار ثماني .. ومنصتان يحطُ فوقهما صقرانِ

ليت هذا العقل يهدأ قليلا فأنام..

الأحد، 30 يونيو 2019

في ذكرى ميلادي..



حين يغلق "حُزيّران" بابِه ، اكون قد اغلقت عاماً آخر في حياتي ،  لتكون افتتاحية  "تموز" هو الباب الموصل لعامٍ جديد..

هـَأنَـذا أسقط عاماً آخر من حياتي كشجرةٍ أسقطت غصنها بعد أن افرغت كل أوراقه  .. لم يكن بـ اختياري إنما هو قدري  ..  لكنني - كــحال كل عام - أتساءل : اتراه قد زاد فيني شيئاً ؟ او لعمري زاد رقماً  ؟ اوصحةٍ تتلاشى !.. وكم من غصنٍ باقٍ لم يتهاوى ؟..

عامٌ قد انقضى.. ماذا عساي ان اقول عنه .. عامٌ شهد الكثير من الانكسارات والمنعطفات  .. ولكنها  لا تعادل الا صِفراً أمام ما حل لعمي..
انقضت أكثر من أربعة أشهر على رحيله.. ولا أعلم - حقيقةً - هل اعتدتُ على غيابه، فـغاب الحزن عني ؟ ام جُرح الفِراق قد إلتأم، فما عدت ألمسه، فنسيته  ؟..
كل الذي اعرف أنني اذكره في صلاتي و وحدتي  .. و صورته لا تغيب عني .. فما ابتسامته بالتي تنسى ..

منذ يومين..
أخبرتني امي بأن ابي قد سمع اخيه يناديه "خليفة" من خلف السور .. فقد اعتادا كل صباحٍ على اللقاء منذ أن تقاعدا قبل أكثر من خمسة عشر سنة .. أراد أن يجيب، فكان الجواب دمعةٌ متمردة ثم صمت رهيب   .. فتمتم : سبحان الله، كأني سمعت "هلال" يناديني!!..

يا ابتي.. لـقد ناداك مثلما ناداك بالأمس وقبل الأمس وما قبله من ايام وسنين..
يا ابتي.. ان مسامعنا تضعف يوماً بعد يوم لكن  الأصوات تبقى منتشرة بيننا ..
يا ابتي.. نحن لا نملك الان جهازاً عجيباً شبيها ب المذياع لنختار اي صوتٍ نسمعه..
ثق يا ابي ان يوما ما سيأتي و سنستمع معا لاصوات الراحلين مجدداً..

أيها العابرون فوق الكلمات ..
لا اسئلكم تهنئةً.. بل مغفرة ..
لعلها تقربني إلى الله منزلةً ..

الجمعة، 3 مايو 2019

قصتي مع المواقف "الغير" مجانية..


- ذات مرة ، زرت دبي مع الأصحاب.. ولأول مرة اتعرف حينها  على المواقف "الغير" مجانية...
(إياك أيها القارئ ان تقول "غير" لا تأتي مع "ال"، فليس هذا حديثنا)

قالوا لي : اذهب و ادفع للموقف من تلك الآلة.. واشاروا الى جهاز على الرصيف، وقالوا الساعة بدرهمين ( إذا لم تخني الذاكرة)..

ذهبت و لم اقرأ التعليمات .. كل الذي اعرفه ان الساعة ب درهمين  و أرغب بحجز ٣ ساعات..
وضعت الدرهمين ، وضغطت على الزر، ليخرج إيصال مكتوب عليه أن المدة ساعة..

و ضعت درهمين، واخرجت إيصال لساعة واحدة ثانية ، وكذا كررت لأجل الساعة الثالثة..

عدت إلى الأصحاب محملا ب ٣ إيصالات ، على كل إيصال، ساعة.. عدت والابتسامة ملئُ وجهي.. فلقد أنجزت المهمة بنجاح..
أعطيت كبيرنا - لنقل كان أمير الرحلة أيضا - الثلاثُ ايصالات ، وقلت له هذه لثلاث ساعات..

نظر اليّ نظرةً طردت ابتسامتي.. و تمتم بكلماتٍ لا يصح المقام بذكرها هنا.. كل الذي اعرفه أنني اصبحت علكة في فم الأصحاب في طريق العودة إلى البلاد..

الله يسامحه.. تعلمنا درس..

الأربعاء، 27 فبراير 2019

نصف شهر على رحيل عمي..


هـَأنَـذا اُدحرج عجلة الزمن مجدداً..
متجهاً إلى  أرضٍ قاحلةٍ ، لا زرع لي فيها ولا ولدا ..
تحكمنا الظروف احيانا لتُبعدنا عن ديارنا و احبائنا عنوةً لأجل لقمة العيش .. 

هـَأنَـذا اترك نزوى حزينا..
لأول مرة اتركها و لا عمَّ لي فيها..
لن اسأل ابي بعدها حين اتصل به "كيف حال عمي؟"..
ولن تخبرني امي حين اُكلمها ان "عمك قد سأل عنك"..

هـَأنَـذا ارحل عن نزوى فاقداً بعضا منّي.. 
من من اعتاد ان يأسرُني ببشاشة وجهه و سحر ابتسامته.. 
من من إذا تحدث، تمنيت أن لا يصمت..
وان صمت، فصمته كان تسبيحاً.. 
من من ساشتاق إليهم كثيرا.. 

هـَأنَـذا كالمستجير من الرمضاء بالنار.. 
افر من كل ما يذكرني به ، فتأبى الذكريات الا ان تعيد نفسها كـفلم سينمائي.. 

لقائي الأخير به.. اتصال امي بعد انتصاف الليل .. المستشفى.. نظرتي الاخيره إلى وجهه.. اتصالي بأختي..
حملوه إلى داخل بيته.. الصراخ.. العويل.. غسلوه وجهزوه إلى مثواه الأخير.. نقلوه بسيارة إلى المصلى.. أقاموا الصلاة عليه.. 
حملوه إلى قبره.. نقاش الحاضرون بتوسعة قبره.. انزلوه و حثو التراب عليه.. 
حشود بالألاف من من حضر للمجلس طيلة الثلاثة ايام.. 
وقصص العابرون عن عمي تنهمر إلينا ..

ربي اجعله من من قيل فيهم : فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.. 
فاجعله يا ربي من الفائزين..