الاثنين، 21 أكتوبر 2019

٩٠ ميلا عن نواكشوط..


لم تكن والدتي لتشعر بالسعادة حين ابلغتها أنني  في عيادةٍ لأخذ بعضاً من التطعيمات قبل أن أتجه إلى أقصى دولة في المغرب العربي..

ليست المرة الأولى ولا اظنها ستكون الأخيرة  في مسلسل  قلق امي - رزقني ربي خدمتها  -.. لكنني كنت حينها قد اتخذت قرار السفر و لم افكر بالتراجع ، فلقد كان حلماً يراودني منذ سنوات.. فلن أتراجع الان..



كنت مؤمناً ان الدنيا تمنحنا بعض الفرص ولن تُعيد منحنا اياها  مجددا.. فلن يكون قلق امي حاجزاً في سبيل إتمام هذه الرحلة و خاصة أنني تحايلت على مسؤولي ليوافق على هذه الرحلة.. هكذا كنت اردد في نفسي، حين أنهيت مكالمتي مع أمي..

يا إلاهي.. هـَأنَـذا أمام عقبةٍ جديدة.. رفضت عاملة المطار إتمام عملية تسجيل الدخول، معلله أنني لم احجز موعداً للعودة من رحلتي هذه..

الساعة تقترب من الثانية فجراً ولا اظن أن كائناً عمانياً ليس "في سابع نومٍ الآن" ..
أشارت إليّ موظفة المطار ان بالإمكان عمل حجز وهمي لموعد الرجوع في محاولة منها لمساعدتي ، فقلت لها أنني قادر على تدبر الأمر ولو لحين .. امنحيني بعضاً من الوقت .. فلا يزال أمامنا أكثر من ساعتين ونصف عن الإقلاع..

"عبادي ، صاحي؟".. هكذا صحت بالهاتف حين أجاب على اتصالي صاحبي عبدالله .. وبصوتٍ متقطع وناعسٍ يصعب سماعه، لكأنه فحيح أفعى تحاول الدفاع عن نفسها.. سيلٌ من الشتائم تلقتها اذني  بعدما ازعجته بإتصالي في هذا التوقيت .. لكنني كنت ابتسم ، ف معرفتي به ليست وليدة اليوم .. و أخبرته بمرادي..

ثلث ساعة قد انقضت قبل أن تصلني رسالة نصية بإستقطاع تكاليف تذكرة العودة من حسابي البنكي .. و يتبعها اتصال منه .. وبخبثي الذي يعرفه قلت له "تراك ازعجتنا ف ذا التوقيت" ، فقهقهت بصوت مرتفع ، فقد توقعت مسبقاً ماذا يريد من اتصاله وكيف ستكون ردة فعله بعد هذا السؤال  .. 
لم تخب ظنوني، فلقد سبق صوته الجهوري سيلٍ من السباب، قبل أن يخبرني بأن تأكيد حجز تذكرة العودة قد تم إرساله إلى بريدي الإلكتروني.. شكرت  عبدالله من القلب بعدما انهيت المكالمة  على معروفه الذي لا يُقدر بثمن..



منذ أن تركت سيارتي عند مدخل المطار و إلى أن ركبت سيارة من استقبلني.. انقضت  أكثر من ٢٧ ساعة.. طفت خلالها بين مطاراتِ ثلاث دولٍ عربية و على متن ثلاث طائرات..

انها الثانية والنصف فجراً بالتوقيت المحلي، السادسة والنصف بتوقيت وطني.. السائق يحاول جاهداً ان يتحدث بلغةٍ عربية فأعذره.. من أقصى الشرق العربي  جئت و إلى أدنى الغرب منه  رحلت.. فما كنت متأملاً ان اجد من يتقن العربية في هذا البلد.. ففضلت الاستماع إلى قناة مونت كارلو بالعربية دون أن أكلف عليه بالحديث معي، ومفضلا قراءة معالم نواكشوط في خيالي ..

شارعٌ  يبدو انه حديث الإنشاء - ولا تسألني عزيزي القارئ إذا ما كانت الهمزة تُكتب لوحدها في اخر الكلمة أو فوق الالف - يخرج من مطار نواكشوط كلسانٍ يحاول إلتهام جسدٍ نحيل .. يقسم الشارعُ المدينة إلى نصفين بلا اكتافٍ يفرشها على جانبيه .. مباني ذكرتني بمشهدٍ تم تصويره في مسقط في منتصف أو أواخر السبعينات من القرن الماضي.. لكنني متفائل مع أهالي نواكشوط ان الخير قادم و التعمير اتٍ لا محاله..



انها السابعة صباحاً.. موعد  الذهاب إلى المطار مجدداً.. ف طائرة مروحية ( هليكوبتر) بإنتظاري مع مجموعة من المسافرين.. 
أكثر من ساعة ونحن نحلق بالطائرة   فوق البحر، وعيناي لم تشاهد بعد تلك السفينة المزعومة  الحاملة على سطحها جاهز حفر الابار..



خمسةٌ وسبعون دقيقة، ذهبت من عمري منذ أن صعدت الطائرة  محلقةً فوق البحر وقبل أن تلامس قدماي هذا الصُنع العظيم...

من علم الإنسان كل هذه العلوم .. يالله كم انت عظيم بأن منحت الإنسان عقلا جباراً ليغزوا به بحراً عميقاً باحثاً عن مصدر للطاقة، فوق سفينة تطفو  على  بحرٍ يبعد عمق قاعِه أكثر من ٢٥٠٠ متر!!.. 



تنظر إلى جهة الغرب إلى حيث ما يثير فضولها دائما .. إلى نجمٍ تميّز عن بقية اقرانه من النجوم بإشتداد نوره و كِبرِ حجمه.. مهما حاولت هي أن تبعد بنظرها إلى جهة أخرى، يبقى هذا النجم متلألأً .. 
هكذا قالت لي امي ذات يوم قبل أن اكون في هذا الوجود ومن بعدها ولدت .. تذكرت قولها حين  كنت ابحث عن قبلتي على سطح هذا الجسم العائم .. طفت شرقه وغربه ، ولم احدد قبلتي بعد.. العمر يمضي يا اماه ولم ترسو سفينتي بعد..  
كهذه السفينة انا يا أمي.. حين تستقر في مكانها وكأن اعمدة خرسانية تمسكها من الأسفل حتى لا تتحرك.. لتتم حفرها بنجاح وتمنح خيرها للآخرين.. وبعدها ترحل إلى مكانٍ آخر باحثةً عن كنوزٍ مدفونة  تحت طبقات الماء والأرض .. تدور حول محورٍ ثابت - ولا تسأليني يا اماه كيف تم تثبيته - كثورٍ يدور حول حلقةٍ.. متى ما غيّرت الرياح اتجاهها او حاولت الأمواج تقاذفها، غيرت من إتجاه بوصلتها ..
شعبها في حراكٍ دائما كالدماء تجري في اوردتي و شراييني.. انها قرية صغيرة عائمة وسط المحيط.. حُددت أهدافها وأنا لا أعلم ما اذا كنت قد حددت أهدافي أو  لم احددها بعد يا أمي..

تذكرتك يا اماه وانت تنشدين قصيدة شيخنا السالمي عن تلك الاعجوبة التي حدثتني اياها في صغري ، مطلعها  :
لقد ظهرت أعجوبة في زماننا... بقرية نزوى وهي أم العجائب

تسائلت حينها يا أمي ان لو كان شيخنا السالمي معي، هل كان سيقول :
اصاب العقل حيرةٌ فرماني .. فوق قريةٍ لا تهاب الخلجانِ
سفينة لها من الأدوار ثماني .. ومنصتان يحطُ فوقهما صقرانِ

ليت هذا العقل يهدأ قليلا فأنام..