الخميس، 14 مايو 2020

السجن.. الداخل فيه مولود والخارج منه مفقود..


حاملاً لافتةً صغيرة.. 
كتب عليها اسمي بلغة أجنبيه.. 
كان ينتظرني ذلك الشاب العشريني ، حين توجهت اليه مبتسماً و اجرُّ خلفي حقيبتي ، ومعرفاً له بأنني هو من تبحث عنه أمام هذه الحشود التي رفضتها الطائرة كما ترفض المعدة بعض الطعام.. 

على يمينه جلست بعد إمتناعي عن الركوب في المقاعد الخلفية إكراما له، وموضحاً بأننا أخوة وليس مجرد سائقٍ في مهمةٍ لإيصال مسؤوله إلى مكان العمل.. 

تمضي بنا السيارة ذات الدفع الرباعي إلى عالمٍ مجهول .. عالم أجهله و يجهله كل من كان محيطاً بي.. 
خُيّل إليّ ان المركبة تمضي فوق لسان متجهة داخل كهفٍ.. هذه المرة داخل كهف ذهبي لا مظلمٍ .. 

نخترق الكثبان الرملية على طرقات وعرة وعلى مركبة لا تبخل عليك من اهتزازاتٍ، تشعر بها في رأسك.. ولا تُسمعك الا طقطقات الحصى المتطاير أسفل جسمها.. فكان لزاما عليّ ان اتحدث بصوتٍ مرتفع أو أجعل اذني قريبةً منه حتى أتمكن من إلتقاط ما يقول.. 

والمركبة تواصل المسير غير مكترثة بما يدور تحتها.. لكنها طيبة بين فترة وآخرى حين تكرمك بنفخة من التراب لا تعرف مصدره.. وتجيبها بـ كحكحاتٍ مستمرة محاولا عبثاً رفض الغبار الذي دخل رئتك.. ولكن هيهاتَ.. 

والمركبة تواصل المسير إلى حيث ينقطع إرسال هاتفك ، ولكنها تمنُّ عليك بأصوات مختلفة من مذياعها العتيق... اعلانٌ صريحٌ بأنك ستدخل إلى عالمٍ غير  عالمك الطبيعي.. انك خارج التغطية.. 

لا شيء يدعو إلى التفاؤل هنا .. فلا مكان لكائنٍ حيّ يمكن أن يحيا .. ولا أمل لشيء أخضر ينمو على هذا البساط الأصفر.. 
حتى الرمال الخفيفة لا تتوقف عن الرحيل.. بل لا تتوقف عن الهروب من هذا الجحيم.. ونحن نتجه اليه.. 

الساعة تقترب من التاسعة صباحاً.. بالتأكيد ستكون الأجواء باردة قليلا.. هكذا حدثتُ نفسي و فتحت النافذة المجاورة.. 
"استغفر الله" هكذا قلت سريعا بعدما عاودت إغلاقها بسرعة .. 
فقال صاحبي : هذا هو الغربي.. وارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة.. وكأنه يقول في نفسه : اهلا بك في وسط الجحيم.. 

لم يكن لهيب نارٍ وإنما نسمة هواء حارة كمقدمات لما ينتظرني في الظهيرة.. لم تحمل النسمة معها غير رائحة الموت و اصفرار يؤذي العين و زرقة شديدة لـسماء صافية، لا تمنحك أمل بسيط في أن تتشكل غيمة هنا أو هناك.. أو تمنحك تفاؤلاً بأن شيئاً ما يمكن أن يحجب عنك الجحيم الذي تبعثه الشمس...

والمركبة تواصل المسير.. تتبع لافتاتٍ صغيرة.. تقود إلى مخيمٍ للعمال المساكين.. تقود إلى حيث الكادحون المجهولون.. وحولهم الرمال في سفرٍ دائم.. 

"الا نقف هنا؟" هكذا سألته.. 
فـ اجابني بخبث : لا زال المشوار طويلا.. ومضى بي إلى حيث لا أعلم.. كل الذي اعرفه أنني اشتقت لكل ألوان الطيف ما عدا الأصفر والأزرق.. 

من بعيد.. رأيت لافتات كتب عليها.. نقطة تفتيش.. 
سألته :هل توجد نقاط تفتيش وسط الصحراء؟.. 
فـ اجابني :ليس دائما وليس في كل مكان هنا.. 

اشهرت جواز سفري و بطاقتي المدنية واعطيتها إلى ذاك الجندي الحامل لسلاحٍ لم ارَ مثله من قبل.. 
"انت من تلك البلاد" هكذا تحدث الجندي مبتسماً.. وكأنه قد وجد ظالته.. مما يعني أن مناوبته قد شارفت على الانتهاء بحضوري  .. 
أشار إلى السائق بأن يركن مركبته بمحاذات الطريق ريثما ينتهي من بعض الاتصالات.. 

خمسة دقائق من الانتظار كانت كافية لأن اطلب من السائق ان يزيد من تبريد المركبة.. خمس دقائق مضت وانا اضرب اخماساً بأسداس..
وبعدها رأيت الأفراد يجمعون أغراضهم و يحملون لافتاتهم معلنين انتهاء التفتيش.. طالبين من السائق ان يتبعهم.. و آلاف من علامات الاستفهام قد ارتفعت فوق رأسي...

بعد نصف ساعة من التغلغل وسط الرمال وبمحاذاة تلال الكثبان التي تحجب أشعة الشمس بين فترة وآخرى.. دخلنا إلى معسكر للشرطة أو الجيش.. لا أعلم.. لكنه معسكر للحكومة ...

وأمام احد الأفراد وقفت.. وبيننا طاولة.. ومن دون مقدمات سألني : هل عمّك فلان ؟.. فقلت : نعم..
فقال لماذا دائم الترداد لــ :
ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأوْلئك هم الكافرون
ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأوْلئك هم الظالمون
ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأوْلئك هم الفاسقون
فأجبته بأن عمي يحفظ الكثير من الآيات والسور.. ولا اعلم عن نياته..
فأجابني : سنخبرك لاحقا بماذا يقصد.. والان أخبرك بأنك رهن الاعتقال..
مرحبا بك في سجن الكثبان الحمراء

وعلى طاولته.. كانت هناك خارطة.. فـأشار إلى مسمارٍ وسط الخريطة.. فقال نحن هنا.. وانا لا أرى مخططاً للسجن.. إنما كثبان رملية..
يتحدث وانا لا أعلم ماذا يقول.. فلا زلت غير مصدق لما يحدث لي..إنني في ذهول.. 

كل الذي أخذته من هذا الفرد ان اي محاولة للفرار ستكون فاشلة.. مصير الهارب هو العودة إلى السجن من جديد..
ف الداخل فيه مولود، والخارج منه مفقود..